رواية التباس عبارة عن ملحمة من خيوط متشابكة هنا و هناك ، حين يبدو لنا كل خيط من خيوط رواية التباس يقودنا إلى لغز جديد ، يضع الحيرة في دواخلنا ، ليزرع في نفوسنا الغموض و التشويق…
رواية التباس الفصل الخامس القسم الأول الشك
وضع الرائد جاكوب صحيفة هوبم الحدث جانبًا بينما كان يجلس على كرسيه المائل في شكل قوس ، ثم رشف آخر رشفة من قدح قهوته البرازيلية و راح يفكر و يغمغم في تلك اللحظة كانت ابنته الوحيدة تنظف سجاد الصالة بالمكنسة الكهربائية ، لَاحَظَتْ ابنته شرودهُ و تفكيره العميق حينئذٍ شعرَت بفضول لمعرفة ما يفكر به والدها الذي غالبًا ما يكون بهذه الوضعية عندما تحدث جريمة في فضاء هوبم . قالت متسائلة و هي تقترب منه بخطوات :
– ما يشغل بال والدي في هذا الصباح ؟
مال برأسه قَلِيلًا ثم رَدٌّ بنبرة تنُمّ عن ضيقه الشديد :
– جريمة في دائرة هوبم 19 . قُتِل شاب يافع كان يعمل في مقهى . كذلك مقتل ثلاثة سيدات في منزلهن ليلًا ، إنه يوم عجيب يا ابنتي .
كان جاكوب ضابط في العقد الخامس من عمره ، مديد القامة متوسط البنية ، أشيب الشعر ذو أنف معتدلة كالسهم ، حنطي البشرة . ينم وجههُ عن شَخْصِيَّةً هادئة الطباع . كما كان كثير الصمت و التفكير ذو عينين سوداوين تخفي حُزنًا عميق بعد أن فقد زوجته التي ماتت بسبب مرض السرطان ، منذ ذلك الحين لم ترى عيناه سيدة تداوي الجرح العميق الذي كان سببه فراقها.
اقرأ أيضاً على موقع الموضوع : روايات تشويق
بعد أن ماتت و تركت له ابنته لينا في العقد الأول من عمرها ، ها هي الآن في عامها قبل الأخير للتخرج من جامعة هوبم قسم التشريح . شهقت لينا ثم وضعت المكنسة جانبًا ثم أتبعت تقول في دهشة و هي تجلس بالقرب منه:
– يا للهول و هل تم معرفة القاتل ؟
– لا . و لكن يبدوا أنني سأقطع إجازتي للتحقيق في هذه القضية المريبة .
– و لكن يا أبي يوجد ضابط غيرَك يمكنه التحقيق فيها . أكمل إجازتك فأنت لستُ الضابط الوحيد في الوزارة.
سكت جاكوب ثم مسح شاربه الخفيف و هو يقول بجدية :
– واجبي يحتم علي ذلك . كما أنني على علم بتلك الدائرة ، لأنني عملت فيها لسنوات طوال ، حيث يمكنني كشف القاتل في أقرب وقت .
– لكن ما يُشاع حول هذه الدائرة خطير فِعْلًا ، كم أنك في إجازة الآن ، حيث يمكن لأي ضابط آخر القيام بهذا الشيء ، أرجوك تمتع بإجازتك يا أبي لأنها ليست المرَّة الأولى التي تَقَطَّعَ فيها راحتك بسبب العمل .
بالرغم من شُهرّة والدها في العمل الشرطي وحُبَّ أهل البلدة له و المحيطين به في العمل؛ إلا أنها مع كل هذا لا ترى في هذا العمل الشاق إلا الخطر المحتم على والدها الذي لم يمكن مجرّد أب فقط ، بل كان لها أبًا و أم و تحبه بجنون ، و كَثِيرًا ما تشعر لينا بأنه صديقها و شقيقها بسبب قربهُ منها و حبهُ الكبير لها ! كانت لينا في العقد الثاني من عُمرَها ، كانت قصيرة القامة و ممتلئة الجسم ، ذات وجه بيضاوي مُشرِق تشع منه ابتسامة برّاقة و تلك الضحكة الطفولية التي تجعلها كطفلة في عقدها الأول و شامة طُبِعت على خدها الأيمن ، و عيناها الواسعتين اللائي يشع منهن بريق كضوء الصباح المتدفق على ربوع خضراء .
لم يكن جاكوب يرغب في خوض حوار مطوُْل معها لعلمه المسبق برأيها السلبي في العمل الشُرَطي ، لم تلبث أن عدلت جلستها كي تحاول إقناعه حتى نهض و دلف داخل غرفته الفاخرة ، ثم فتح خزانة ملابسه و هو في غلق و توتر بالغ ! وقف جاكوب أمام المرآة و هو يعدل بدلته و يضع نظارته السوداء ، ثم خطّف عصاهُ الذهبية المركونة في زاوية الخزانة ، ثم خرج مسرعًا و صوت تلاحم مفاتيح سيارته يصدر من يدهُ ثم قال قبل أن يخرج :
– يكفي يا لينا ! أنتِ على علم بأني لن أجلس في المنزل بعد تلقي مثل هذا النبأ الصادم . أقل ما يجب أن أفعله هو أن أذهب كي أفهم ما يجري في مديرية الشرطة .
حينها أدركت لينا بأنها سوف تفشل هذه المرة أَيْضًا في الوقوف ضِدٌّ رغبة والدها الذي كان يحب عمله جِدًّا ، حينئذٍ جمعت يديها أمامها و هي تراقب خروج والدها من الشقّة إلى أن أغلق الباب خلفهُ ، ثم تنهدَّت تنهيدة عميقة و مسحت بِطرَّف أصبعها على طرف أنفها ، ثم عادت لإكمال عملها !
القسم الثاني
فغرت أنتيل فمها و بَدَتْ على ملامحها الجامدة الرهبة ، عندما وقعت عيناها على فتاة مستلقية على ظهرها و نظرها نحو السماء و شعرها الغزير يغطي وجهها . كانت ترتدي بنطال أسود و قميص بيجي ، فقد بدا لأنتيل و صديقتها أن الفتاة فارقَت الحياة حتى إقترين منها شَيْئًا فشيئا وقتئذٍ تبين لهم بأنها على قيد الحياة ، بعد أن قالت بصوتٍ فاتر و هي تشير بأصبعها.
– لقد هَرَب من هذا الإتجاه . كان معي و هرب ساعدوني من فضلكم .
قالت أنتيل و هي تجثو بركبتيها مُحَاوَلَةً مساعدتها على النهوض :
-و لكن لا يوجد أحد في هذا الوادي غيرنا ، و لم أتوقع طيلة الليلة الماضية بأن هناك شخص معنا هنا !
أدلت فيروزة دلوها و هي تَتَحَدَّثُ بِسُرْعَةٍ بالغة :
– دعيها تكمل حديثها يا أنتيل . هيا أكملي من أنتِ و ما الذي جاء بكِ إلى هُنَا ؟ و من كان معك هنا و هَرَب ؟ هيا تحدثي .
ردَّت و هي تعدل جلستها على الأرض و أنتيل تسندها من ظهرها :
– أسمي بوغدون جاك من مدينة لابورد ، أما بخصوص من جاء بي إلى هُنَا ، لا أعلم صراحة كل ما أعرفهُ إنني كُنتُ على موعد مع السيد كروجند من أجل مساعدتي في بحثي عن عمل في شركة صديقه جاك ، و أرسل لي سائقه الخاص لياخذني إلى مكتبه ، و ما أن تحرّك سائق السيارة لم أشعر بنفسي إلا وأنا هنا!
تبادلت أنتيل و فيروزة النظرات في شَيْءٌ من الدهشة و الريبة بعد حديث مس بوغدون . قالت أنتيل و هي تعقد حاجبيها و تمسح بيديها على خَدَها :
– كروجند مَرَّةٍ آخرى ؟ ألم أخبرك يا فيروزة بأن وراء هذا الرجل سر كبير .
أومأت فيروزة برأسها و بحاجبين معقودتين ثم قالت متسائلة :
– لكن يا بوغدون قلتي بأنه هَرَب من هنا . كيف حدث هذا ؟ هل جاء معك إلى هنا ؟
– عندما فُقت كان الظلام حالك و لكنه كان يجلس بالقرب مني و كُنتُ في حالة بين الوعي و الإغماء و لم أنظر لوجهه جِيدًا . لذلك لست متأكدة هل هو كروجند أم هو السائق .
– يا للهول هذا يعني بأن رجل آخر كان معنا في ذاك الظلام الذي كُنَّا فيه ، و كان يرانا و يسمع حديثنا يا فيروزة ؟
قالتها أنتيل و قد شردَت دمعة ساخنة بللَّت خدَها و ارتسمت على وجهها علامات الشعور بالغرابة بما يحدث ، هنا أتبعت فيروزة تقول و هي تتلفَّت يمنةً و يسارًا :
– هذا تَقْريبًا شبه ما حدث معي و مع أنتيل ، لكن مع كل هذا نحمد الله بأننا ثلاثة و يمكننا أن نفكر بالخروج من هذا الوادي الذي لا نعلم موقعه تحديدًا في الخريطة .
– أنتِ أيضًا حدث معك هذا يا أنتيل ؟
ردَّتْ فيروزة بِخفَّة و راحت تسرُّد ما حدث لأنتيل :
– إن ما حدث لأنتيل أشد غرابة ، خَاصَّةً الكم الهائل من الرصاص الذي أطلق عليها ، و النساء اللائي كُنّ في منزلها و اختقاء والدتها ، قاطعتها أنتيل بنبرة تسائل :
– لكن أنا لم أخبرك بهذا يا فيروزة ، كيف عرفتي بأنهم أطلقوا النار على منزلنا ، و من قال لكي بأن هُنَاكَ نساء غريبات في منزلنا قبيل اختفاء والدتي ، أخبريني بصراحة من فضلك ، من أخبرك بهذا ؟
عم المكان هدوء مريب بين فيروزة التي إندهشت من طريقة حديث أنتيل ، و أنتيل التي أصيبت بالدهشة من حديثها و التي كانت على ثقة تامَّة بأنها لم تخبرها به . حينئذٍ انتفضَّت فيروزة وانتصبت واقفة و هتفّت قائلة :
– نعم أنتِ من اخبرني بذلك ، أخبرتيني أَيْضًا بحادثة زوجة مستر كروجند عندما رفضت فتح باب شقتها لإستقبالك، يبدو إنك …
– أنا لست مجنونة يا فيروزة ، و أعلم تمامًا ما قلتهُ . أنا لم أخبرك بهذا الأمر ، لأن حديثنا في هذه النقطة تحديدًا لم نتحدث سوى دقائق معدودة و لم نخوض حديثا مطولاً فيها . الآن فقط بدأت تتضح لي الرؤية و أعتقد بأنك جزء من هذا اللعبة القذرَّة يا فيروزة .
شيء ما دخل بينهم و نثر الشك و الريبة ، و انتهت تلك الضحكات المغلفة بالخوف و المجاملة ، و اختفت مبادر الصداقة حين حلَّ محلها الخوف و الترقب ، لكن مع ذلك لم تكن فيروزة تشعر بالضيق من حديث أنتيل ، بَل أصبحت تعيد حديث أنتيل حتى تذكرها . من يدري رُّبَمَا تَتَذَكَّرُ ما حدث في الساعات الماضية ، لكن كانت أنتيل على قناعة بأنها لم تذكر ذلك لها ، هنا تدخلت بوغدون بإبتسامة خفيفة محاولة تلطيف الجو.
– الرجاء الهدوء . الآن يجب أن نجد طريقًا يقودنا إلى أقرَب قرية أو مدينة حتى نعلم أين نحن . هذا ليس وَقْتًا للجدال مطلقًا . الهاتف لا يعمل و هذا يدل بأننا خارج حدود بلدنا ، أو أننا في مكان بعيد للغاية . دعونا نبحث عن حل قبل مغيب الشمس . لم يكن في الوادي ما يبعث في النفس الراحة ، حيث الأشجار المِصفرَّة بدأت تتمايل فروعها التي شارفت على السقوط و خيوط شمس الثانية عشر ظهرًا قد بدأت تتدفق .
رواية التباس القسم الثالث
لم يبقى في تلك الأشجار سوى فروخ الغربان و الطير . بصرّت فيروزة في اتجاهات متعددّة لعلها تجد من يأخذ بأيديهم المرتعشة و يخرجهم من زوايا ذاك البؤس الذي لم يكن في الحسبان . بين المد و الجزر و التفكير العميق ، و بعد أن نهضوا و قرروا البحث عن طريق العودة طرأ على مسامعهن صوت من السماء ما جعلهن يستبشرن بخير قادم ، كانت كلن منهُنّ ترفع رأسها نحو السماء علها تجد مصدر ذاك الصوت ، هُنَا هتفَّت أنتيل و هي تشير بأصبعها :
– إنه غُراب أليس كذلك ؟
خطفّت بوغدون العبارة منها و هي تقول :
– يبدو أنه غُرَاب أو طائر ضَخْمٌ على ما أعتقد .
أما فيروزة فقد كان لها رأي آخر :
– إنها طائرة بدون طيار ، أنا عملت قبل اليوم في شركة jkop للطيران . هذا النوع يستخدم لرش المبيدات . أنا متأكدة بأنها طائرة بدون طيار .
– لم أری في حياتي طائرة بدون طيار على شكل غُرَّاب .
قالتها أنتيل في شيء من التعجب و نظرات الشك لا زالت تحرق محياها كلما تذكرت ما قالته فيروزة . بعد بُرّهة أقترّب الطائر مِنْهُنَّ حتى أصبح على ارتفاع خمسين متر من فوقهن حتى رأت كلن منهن الكاميرا التي وضعت أسفل الطائر ، حينئذٍ أصبحت كلن مِنْهُنَّ تلوح بيدها نحو الكاميرا و هُنّ يصرخن بصوتٍ عال :
– النجدة، نحن في ورطة أخرجونا من هنا !
لم يمكث الطائر سوى لحظات حتى ارتفع نحو السماء مُجَدَّدًا واتجه شرقًا ، و هُنّ ينظرن نحوه إلى أن إختفى في لمح البصر . كانت هذه اللحظة التي تأكدت أنتيل بأن الأمر ليس سهلاً ، و أن هناك سر وراء كل ما يجري . وقتئذٍ قفزّت بوغدون و هي تتحدّث و تحاول أن تخفي معالم الخوف لتقول و هي تقترب من أنتيل:
– هذا الطائر جاء كي يرشدنا عن الطريق الذي يجب أن نسلكه للخروج من هنا ، كما ترون أنه إتجه شرقا و هذا يعني بأن الطريق الذي يجب أن نَسْلُكُهُ هو اتجاه الشرّق أليس كذلك ؟
تبادلت أنتيل نظراتها التي يغمرها الشك مع فيروزة التي كانت توافق بوغدون الرأي ، لتقول فيروزة و هي تقترَّب من أنتيل و تحيطها بذراعيها :
– بوغدون على حق يجب ، أن نذهب من هذا الإتجاه من يدري ربما نجد من يقدم لنا حلًا أو مساعدة . لكن أنتيل لم تتفوه ببنت شفَّة ، بل ظلَّت جامدة منتصبة و هي تجمع يديها أمامها ، ثم أتبعت تقول بعد صمت طويل بصوت فاتر :
– هيا نذهب إذن . لا أعلم من له مصلحة في أن يرشدنا للطريق بهذه الطريقة المريبة ، كان من الأفضل أن يأتي إلينا على سيارة بَدَلًا من أن يرسل لنا طائر على شكل طائرة بدون طيار ، إنه لأمر غريب حَقًّا !
– أعتقد أنهم حرس الحدود ، و هم يعملون بهذه الطريقة غالبًا في حراسة السهول و الصحراء ، و لكن..
قطَّعت فيروزة حديثها عندما لمحت ورقة بيضاء بالقُرّب من أنتيل حينئذٍ هتفّت و هي تهرّع و تخطف الورقة :
– اِنْهَمْ أرسلوا لنا رسالة عبر هذا الطائر ، لنقرأ ما كُتِب عليها !
فتحت فيروزة الورقة التي كانت مطوية بعناية ثم راحت تقرأ لهم و سط دهشة أنتيل و بوغدون التي بدا عليها الخوف :
{ تحركوا في اتجاه هذا الطائر قبل حلول الظلام ، هذا الوادي يسكنه القتلة و المجرمين ، هيا تحركوا بِسُرّعة}
أسئلة الفصل:
- ماذا يحدث في التباس
- هل أنتيل على حق في الشك بصديقتها فيروزة؟
- أم انتيل لم تنتبه لما قالته ب
- حسب صدمتها و خوفها ؟
- ماذا تتوقعون أن يحدث في الفصل القادم؟
يسعدني رأيكم حول الفصل و تعليقاتكم حول احداث رواية التباس حتى نرى ما يحدث في الفصول القادمة ، ربما تنكشف لنا خيوط غموض رواية التباس أو تزداد تعقيداً.