خيال الكاتب يتجسد في رواية سري للغاية

ثم انطلق ميدوك قَاصِدًا منزله بسرعة جنونية، و انعطف يسارًا ، حينها وقعت عيناهُ نحو سيدة تقف جانب الطريق بين يديها طفلاً. وقتئذٍ تسائل في نَفْسَهُ في حيرة

خيال المؤلف يبدع في هذا الفصل المكتوب باحترافية عالية ، ستجد نوع جديد من خيال لم تقرأ عنه من قبل ، و نحن نتعمق في تفاصيل رواية سري للغايه

رواية سري للغاية الفصل الثاني لا شء
تدفقت شمس الصباح وفاض بريقها الذهبي ، ثم تسللت تداعب الاشجار بدفئها، حينها تنفسَت الأرض وفاقت من سُباتها، تلك كانت بمثابة شعلة أمل حين انتشر الناس في منعطفات كسب العيش ، عندما اندفع ميدوك من داخل سيارته قَاصِدًا مبنى شُرْطَةً سادوني . بدا المبنى ذو تصميم فريد يقابل طريقًا للسيارات التي بدأت حركتها المعتادة …
ركن سيارتهُ تحت شَجَرَةً عملاقة تحتضن سيارات عديدة، ثم هرول نحو مبنى الشُّرْطَةَ يتفحص المكان بِخفَّة هنا وهناك كأنه يحمل نبأ تحذيري .
لدينا مجموعة من أجمل : روايات عربية مشهورة
أصبح يجول ويصعد طابقًا ثم آخر علهُ يجد مكتب البلاغات ويُفرغ ما ضاق به صَدْرَهُ وحبس عن جفنهِ النوم، حتى انتفضّ عندما لامست كتفهُ يد عاتية مثل غِطَاء إناء حديدي وتبعه صوت أجش، وقتئذ انتفض ميدوك ثم دار نصف دورة حتى بصر رَجُلًا ضخم الجُثَّة عريض المنكبين يزين وسطهُ بمسدس آلي ، حين قال و يداه خلف ظهره :
– هل يمكنني مساعدتك ؟
سَكَتَ ميدوك لَحْظَةَ ثم غمغم في ضيق:
– هكذا تعلمت أيها الشرطي، افزعتني يا رجل بيدك العاتية هذه !
و بعد أن ذهب عنه الرَّوْعُ من جراء ما قام به الشرطي، حينها ابتلع ريقهُ ثم قال وعيناه تحملق في وَجَّهَهُ و يداه خلف ظهرهِ  في أدب أهل سادوني عند التحدث مع رجل قانون، وهو يضع قِناع الثبات الزائف والهدوء الوهمي :
– سيدي لدي مشكلة كبيرة حدثت لي في الليلة الماضية ، و أنا هُنَا لكي أُبَلِّغُكُمْ بما جرى .
اهْتَزَّ الشُرطَّي بجسدهِ الضخم ولم ينطق ببنت شفة، إلا أن الإشارة التي أشار بها بأصبعة كانت كافية، حين تبعه ميدوك وهو يفتح بَابًا وينعطف يسارًا ثم يمينًا حتى اسْتَقَرَّ أمام باب يقف أمامه حرس بزي رسمي أبيض ،  يسمونهم حُرَّاس الأبواب بلسان أهل سادوني، لم يأتي الإسم من فرَّاغ …
في العام 1780 ميلادي كانت سادوني مملكة تتبع لقبيلة سادوس ميخا، خاضت حربًا طاحنة حتى تنال استغلالها و تُحظى بِحُكم ذاتي، ذلك بعد أن عاش أهل سادوني القهر والظلم من جور السلطان الذي قضى على الأخضر واليابس، ومات المئات جوعاً. تقدَّمت جيوش سادوني مُدججَّة بالرماح والسيوف حتى شارفت على بدء المعركة، إلا أن عائلات الجنود كانت في خَطَرٌ ، وقتئذٍ تقدمت قبيلة منساكوش بتعيين أفرادًا من ابنائها لحراسة العائلات حتى يعودوا من المعركة…
بالفعل أبلوا بلاء حَسَنًا في حفظ شَرَفٌ الجنود و صغارهم في غيابهم. مُنْذُ ذاك الوقت صارَت هذه القبيلة تحرس جميع الأماكن العامة والخاصة في سادوني ، وما أن بلغ الشُرَّطي المكتب حتى قال يحدث ميدوك:
-في هذا المكتب ستجد الضابط المسؤول، أتمنى لك يوم جيد .
او يمكن قراءة : أشهر الروايات العربية
دلف ميدوك مترددًا يقدم قدم ويؤخر أخرى، لم يكن ميدوك يَوْمًا من مترددّي مراكز الشُّرْطَةَ ، بل يعتبر ذلك شيء غير محمود. لَكِنَّهُ القدر الذي يغير كل القناعات والإفتراضات ، وبعد عِدَّةَ خطوات كان أمامهُ ضابطين أحدهم يجلس خلف مقعدهِ والآخر يجلس أمامه، وقتئذٍ شعر بالرهبة من هيبة الزي العسكري، والنجوم الذهبية المتلألئة على اكتافهم،  في تلك اللحظة قَطْعٌ الضابط حوارًا كان يجريه مع زميله بعد أن بصر ميدوك يتقدم نحوهم مثل سكران بات يقارع الخمر، هنا هتف متبسماً:
– مرحبا بك، تفضل .
قال ميدوك بوجهٍ مصفرَّ محاولًا الظهور بمظهر رجل يثق في نفسه، إلا أن العرّق الذي بدأ ينساب من جبينه كان برهانًا بما هو فيه :
– سيدي ، صباح الخير.
رد الضابط تعلو وَجْهُهُ تساؤلات منطقية، و بادر الضابط
الآخر بالسؤال :
– مرحبا بك كيف يمكننا مساعدتك ؟
تقدم ميدوك خَطْوَةً ثم قفزَّ كأنه تَذَكُّرٌ شَيْئًا عندما وضع يده خلف ظهره، وشرع في سرد تفاصيل ما جرى دون مقاطعة منهما، لكن نظراتهم المتبادلة فيما بينهم بين الفينة والأخرى كانت محل شَّكَّ وريبة لميدوك، جعلته يتوجس خِيفَةً مما أقدم عليه. وما أن أنهى حديثه حتى قال الضابط الذي يجلس خلف مكتبه وتلمع أعلى كتفيه نجوم ذهبية لرتبة العقيد، وأدرك ميدوك أسمه عندما ألقى نظرة خاطفة نحو تلك اللوحة الزجاجية التي تتوسط مقدمة مكتبه :
– ورد في مخيلتي حِكمة قالتها لي جدتي يَوْماً { أن الشيء الذي نشقى لأجله يأتي على ظهر سلحفاة ، وما نخشاه يأتي على ظهر حِصان. هل تعلم لماذا قلت لك هذه الحكمة يا ميدوك؟
تململ ميدوك قليلاً ثم عدل وقفته بنقل حمل جسده لجانبه الأيسر، حينها اختلط عليه الأمر وشبح ابتسامة خفيفة صفراء تشَِّع من وجنتيه بعد أن حدث ما يخشاه في كل لقاء يجمعه بمسؤول حكومي، عندما أحس برغبته في التنفس، و لكن كان يخشى أن يكون للنفس صوت يفضحه أو رائحة كريهة تقلل من قيمته ثم قال وهو يقاوم ذاك الشعور المملَّ :
– لا يا سيدي لم أفهم ، أعذرني فأنا ليس بهذا الدهاء !
أتبع الضابط حديثه وسهام نظراته الثاقبة نحو ميدوك تارة وزميله تارة أخرى:
– قضينا لَيَالٍ عديدة في البحث عن حل دامغّ، وتعرض صديقي للفصل من عمله بسبب ما جئت به، وها أنا ذا اليوم أكتب تقريرًا نهائي مفصل عن هذا الأمر الذي جئت به في هذا الصباح المبارك، لا يسعني إلا أن أشكرك بأنك فتحت لنا نافذة أمل جديدة يا ميدوك. وقبل أن نشرع في الخوض في تفاصيل ما جِئْتُ لأجله اُحِبُّ أن اعرفك بنفسي وزميلي، أنا العقيد جاكوب لازرو رئيس قسم التحري وهذا صديقي وزميلي الرائد فليب جون…
وقتئذٍ أشار له جاكوب بالجلوس ، حينها لم يفق ميدوك من هوُل ما سمع عندما شرَد بذهنه بَعِيدًا وبدا له سواد الواقع وانعدام الرؤية، إلا أنه لم ينكر شعوره بالدفئ والإطمئنان بعد أن أفرغ ما يشغل جل فَكَرْهٌ خَاصَّةً بعد أن إنكشف غِطَّاء الحقيقة عاريا أمامه…
ثم قعد على كرسيه يقابل جاكوب بأصابع تشابكَّت لا إراديًا، ثم راح يُفَكِّرُ ويسترجع ما جرى، و أدرك أنه لم يكن حلم مزّعِج ، أو موقف عابر، بل هو شيء عجزَّ عن تفسيره ضباط برتب كبيرة ، إلا أنه استجمع قواهُ وجلس صامتًا يسبح في فَرّاغ من الحقيقة والمنطق ، وقتئذٍ قال جاكوب و تعلو ملامح وجهه الدائري الأسمر الجديه والحزم :
– يبدو من ملامح وجهك وما تفضلت بذكره أن الليلة الماضية كانت صعبة ولم تنم طوال الليل، وأن زوجتك أَيْضًا تشعر بالقلق بغيابك عن المنزل كل هذا الوقت. عُدَّ إلى المنزل الآن وخُذَّ قسطًا من الراحة، سألتقي بك في المساء، حتی أخبرّك بما يجب فعلهُ مع عائلة باردلي .
– أنت نصيح يا ميدوك ؟ هل تريدني تصديق هذا الكلام الفارغ ؟ الطفلة الصغيرة لا تصدق هذا ، كان بإمكانك تأليف قِصَّةً تدخل العقل . قُلّ إنك عُدت لها بعد أن تعافيت من الصدّمة التي كنت أنا سَبَبًا في خروجك منها، هل هذا جزائي بعد كل هذه السنوات؟
قالتها جيهان زوجة ميدوك بصوتها المبحوح كالتي تعاني الزكام، وهي تصُرَّ وجهها بعد أن دلف زوجها منهكاً يجر خلفهُ جيوشا من الهمَّ، كانت حينها ثائرة تجوب أرجاء الشقة كالمجنونة، إلا أنه يعرفها جيدًا واعتاد على صوتها العالي، لكن ما مرَّ به جعلهُ لا يتقبل انفعالها، عندما مددَّ جسده على أريكة الصالة الدائرية التي تأخذ الجانب الشرقي للشقة، ثم قال كلمة واحدة مشحونة بِكُْمَّ الهم الذي يقاسيه حينها:
– أنا لست بخير.
وقتئذٍ هدأ بركانها الثائر قليلاً واقتربت منهُ وراحت تلقي عليه تساؤلاتها الفضولية القاتلة والمباغتة، لم تهدأ إلا بعد أن أخذت الحقيقة جُلّها، وقتها تعجبت وسكتت قليلاً ثم قالت بنبرة تُظهِرَّ حجَّم الكارثة وتضرب بكفيها :
– و ما شأنك أنت بها إن انتحرت أو إذا تم خطفها ؟ إن الواجب الذي يتحتم عليك هو إيصالها حيث طلبت، ولكن ليس من حقها أن تطلب منك انتظارها حتى مشرق الشمس، إضافة إلى ذلك أنك قُمتَ بإبلاغ الشُّرْطَةَ و هذا عين العقل وكفى .
سَكَتَ ميدوك ثم تنهدَّ و مسح بيده شعر رأسه ثم رمقها بنظرّة وكأنه شيخ يستمع لطفل، ما تفكر به زوجتهُ أتى من نزعة نفسها والغريزة التي خلقها الله بها، إلا أن العقل والمنطق يجب استخدامهم في هذه اللحظة بالتحديد حتى لا تكبر الكارثة وتهدِم كُلَّ جِدّار قائم .
تنحنح ميدوك ثم طلب منها إحضار كوبًا من القهوة وصندوق سجائره من رف الكوميدينو، ما أن غادرت المكان حتى تنفس الصعداء ثم راح يفكر حتى غطا في نوم عميق، لتات جيهان وتجده سابح في نومه، إلا أن أمارات الخوف لا زالت تعشش في جبينه، وقتئذٍ عدلت قدميه وأتت بلحاف خفيف واحاطته به ثم جلست بُرهة تحملق في وجهه و وساوس نَفْسُهَا تؤرقها ، حيث كانت تتسائل في سريرة نفسها :
– هل حَقًّا  أ هو صادق، أم كاذب و عن سبب الارهاق الذي هو فيه ، كانت بوادر الشكَّ بدأت في السيطرة علی ردود افعالها.
ثم انصرفت لتكمل ترتيب منزلها البهي ، و صارت تنفض الغُبَّار عن الستائر الذهبية التي تناسق طِلاّء الجدار، وخشب الصنوبر يزين الأرضية اللامعة. كانت جيهان مرتبة ومنظمة في شئون البيت فقد يرى القادم إليها ذلك في تناسق الديكور مع الفرَّش، والتحف الأثرية الثمينة التي تَزَّيين بها زوايا صالة الشِّقَّةَ والنجفة التي تتوسَّط المنزل ، تتدلى منها خيوط ضوئية ذهبية بديعة .
ما أن انهت تنظيف الشُّقَّةُ وبدأت في إعداد وجبة الغداء حتى سمعت رنین هاتف زوجها الذي نهض مفزوعًا من نومه وأجاب وقتها، حينها تسمَّرت في مكانها تسترَّق السمع كي تنفي أو تؤكد شكوكها نحوه حتى فطّن لها ميدوك وضغط على مكبر الصوت كي يذهب عنها الشَّك، حينها سمعت :
– مَرْحَبًا السيد ميدوك أنا العقيد جاكوب ، أرجوا أن لا أكون قد أزعجتك ؟
رَدٌّ ميدوك وهو يتثاوب واضعًا يدهُ حول فاه
– لا لا، سيدي تَفَضّلٌ !
– هل يمكننا اللقاء الآن في مقهى كريس .
– نعم سيدي بالتأكيد، إلا أن تُمهلني وَقْتًا فَقَطْ و سأكون تحت أمرَّك .
– خُذَّ وقتك و عند خروجك أخبرني على الفور وسوف آتي إليك . إلى لقاء قريب.
لم يمضي وقت طويل حتى اندفع ميدوك وهو يعدل بدلته السوداء وبنطاله الأزرق في الطريق، ثم مضى كغير عادتهِ يشُّق أزّقة حي الأزهار دون أن يُلغي التحية للجالسين بجانب الطريق، كان يسير وَسَطٌ سحابة من التفكير والترددّ، يشغل فكرهُ سؤال فضولي غريزي…
ماذا يريد الضابط، وهل سيطلب منه شَيْئًا يعجز عن تنفيذه، تجمعت صفاته المترددَّة خوفًا من أن يغوص في مستنقع ضحل تغرّس فيه قدماه دون خِرُّوج .
في تِلْكَ اللَّحْظَةَ تشكَّلت له صورة لواقع مرير قاسٍ قد يعانيه مَرَّةً أخرى. إن الذي شقى في مطبَّات الحياة يدري جِيدًا كيف تأتي المِحّن ، وكيف تبدأ. لم يكن ميدوك ذو نظرة ثاقبة و لا دقيقًا في الاحداث، إلا أنه عاهد نفسه يَوْمًا بأن لا تعود تلك اللحظات القاسية مَرَّةً أخرى.
بينما كان يَضْرِبَ الأرض ويعبث بفكره بين متاهة التدبير و أزقّة التفكير  حتى وجد نَفْسَهُ يقف شاحب الوجه منهار القوة أمام العقيد جاكوب الذي اتخذ رُكنًا جانبيًا أسفل شجرة مثمرة جوار مقهى كريس، ثم رحّبّ به بوجهٍ مُشرّق البسمة والوقار و طَلَبٌ منهُ الجلوس جواره ، ثم أتى النادل يحمل مفكرة لتنفيذّ الأمر بِطَّلب العقيد باحترام وأدب. قال جاكوب مازحًا :
– كوب واحد من قهوة كريس كفيل بمحو آثار النوم عنك.
تبسم ميدوك و هزَّ رأسه فقطَّ ، حينها بَدَتْ ملامح وجههُ مضطربة دون توضيح ، ثم بادر العقيد بالقول:
– هل ستذهب للعمل اليوم ؟
في الحقيقة لا أشعر بِرغبة في العمل اليوم، لذلك قررَّت منح نفسي عُطْلَة صغيرة، كما تعلم لم تكن الليلة الماضية جيدة و لا مُحفزّة للعمل اليوم .
كان العقيد جاكوب في العقد الخامس من عَمَّرَهُ ذو طول متوسط و جسد ممتلئ، ورأس دائري بشعر خفيف . كانت عيناه الواسعتين ذَاتُ النظرات الحادّة تظهر قوة شخصيته، حينها كان يرتدي بنطال جينزّ أسود و قميص أبيض. ارتفع جاكوب قَلِيلًا كأنه يهيئ نفسه لأمر جللَّ، عندما سحب مقعده ليكون أكثر قَرَّبَا من ميدوك قبل أن يقول:
– بناء على ما ذكرتهُ لي و بعد أن تفحصت سجلاتك في أمن سادوني لم أجد ما يمنع من أن تصبح متعاون معنا، و لكن هذا الأمر متروك لك في المقام الأول، ما رأيك؟
هُنَا صدق توقُّع ميدوك، ففي الوهلة الأولى التي غادر فيها مبنى الشرطة أدرك أن ما سيأتي سيكون شيء جديد في حياته، لكنه كان يدعو الله في سِرّهُ بأن تكون هذه الأيام سهلة كنسمة عابرّة، ثم ردّ بعد أن فكّر و تململ في مقعدهُ وهو يحملق في وجه العقيد تارة، وفي حزائه تارة اخرى :
– قبل كل شيء أريد أن أضمن أن التعاون الذي سيتم بيننا سوف يحمي عائلتي على وجه الخصوص، إِلَّا لدي أن هناك سؤال مُلِّح وآمل أن تاخذه بعين الخوف على نفسي وزوجتي وليس القصد منه التقليل من شأن سيادتك.
– أي سؤال ؟ تحدث يا ميدوك هذا حقَّك !
– ما دمتم على علم بهذه العائلة و لديكم بَعْضً الاشخاص المفقودين داخل منزلهم، لماذا لم تهجموا عليهم أو لم تكلف شخص ما قبل اليوم للقيام بمهمة هُنَاكَ .
سَكَتَ العقيد بُرّهة بينما يضع النادل أكواب القهوة و قوارير الماء ، ثم أشعل سيجارة وهو يقول و تحوُم حولهُ سُحبٌ رمادية تشكلّت في دوائر داكنة:
– سؤالك منطقي يا ميدوك قبل شَهْرَ بالتحديد كانت المداهمة الخامسة لمنزل هذه العائلة، وحدثت أحداث ليس الوقت المناسب لذكرها الآن، ولكن ردا لسؤالك لماذا تم اختيارك أنت بالتحديد، لأنك ياسيدي في وظيفة مناسبة بشهادة جميع سكان سادوني، والجميع يعلم أنك بعيد كل البُعدّ عن الشُّرْطَةَ
هنا قهقه ميدوك و قال في بهجة مزجت المزاح والسخرية مغلفة بالأدب:
– و لكن بعد أن نتناول هذه القهوة سيعلم الجميع بأنني صرت قَرِيبًا جِدًّا من الشُّرْطَةَ والدليل هو جلوسي مع سيادتك.
– ما لا تعرفهُ يا ميدوك أن لا أحد يعرف بأنني أعمل في قسم التحقيقات، و إذا سألت هذا النادل سيقول لك ذلك، و ربما تجد من يقول لك بأني أعمل مدير شركة رويال قروب.
حينها اختفّت معالم السُخرية عن وجه ميدوك ، ذلك لعلمه التام بتلك الشركة، فقد كانت من أكبر الشركات في سادوني، ثم قال وهو يضع كوب القهوة :
– ما المطلوب مني يا سيادة العقيد.
لم يكمل ميدوك  سؤاله حتى رَدٌّ جاكوب على الفور وكانه يعرف ماذا يريد أن يقول حين قال:
– الموافقة . و لكن الْخُطَّةَ التي سنعمل بها ليس من المنطقي أن أخبرك بها هنا، أليس كذلك؟
كانت تلك اللحظة التي بينت أن جاكوب لم يكن ضَابِطٌ عادي، عندما تَغَيَّرَتْ تعابير وَجْهُهُ ونبرة صوتهُ ، فما كان من ميدوك سوى الصمت و الموافقة، وقال دون مقدمات :
– ولكن هل السيدة التي التقيت بها في تلك الليلة انتحرت بالفعل ؟
– ما أريد أن اقوله لك، وأعلم ان هذا الشيء سيكون صدمة لك ، فقط من باب العلم بالشيء سأخبرك حتى تعلم لماذا اخترتك لهذه المهمة في المقام الأول، إن هذه السيدة ربما تعرفك جِيدًا واتخذت هذه الطريقة كي توصل لك رسالة ما، أو ربما تخطط للقاء بك مستقبلًا ، وربما هي تقوم بمهمة بطلب العائلة في رؤيتك، ولكن لا تعتبر اَبَدًا أن ما حدث لك هو شيء طبيعي ، سوف ِيمُرَّ مرور الكرام .
شهق ميدوك وفتح فمه عريضًا وارتعدت أطرافه ثم قال وهو يبتلع ريقه بصعوبة :
– هذا يعني أن أذهب و أبحث داخل السيارة رُّبَمَا تركت لي شيء ما بداخلها أليس كذلك.
آخَذَ العقيد آخر شفطة من كوب قهوتهُ ثم سحق سيجارته على إناء فُخاري واتبع يقول :
– كل شيء وارد، وهذا من باب الاحتياط أذهب وتفقد سيارتك وأخبرني إن عثرت على شيء، و سأتصل بك كي أخبرك بلقاء قريب في مكان آخر حتى أحيطك بتفاصيل الْخُطَّةَ التي وضعناها.
قال جاكوب هذه الكلمات ثم نهض على الفور بعد أن أخذ مفتاح سيارته ثم قال بعد أن تذكر شَيْئًا :
– آه ، لا تنسى يجب أن تقوم بشراء هاتف جديد ورقم جديد وسندفع لك المبلغ عند اللقاء، ولكن كن حريصًا من أن يعرفهُ أحد حتى زوجتك .
– زوجتي لا تعرفه ؟ هذا مستحيل . كي لا تكتشف ذلك يجب أن أحفر حُفْرَةٍ داخل الغرفة وأدفنهُ، هذه الشريرة لديها حس أمني خَطِيرَ .
كلمات حدّث بها ميدوك نَفْسَهُ بعد أن غادر جاكوب بسيارته بهدوء يظهر فخامة مركبته السوداء الفارهة، ثم مضى ميدوك قَاصِدًا منزلهُ يَضْرِبَ أخماسًا في أسداس، حينها راوده شعور غريب ولم يجد له تفسير، هل هو فرح بأن ضابطًا مثل جاكوب سيقف بجانبه و رُّبَمَا يحصل على تكريم من الدولة على التعاون أم هو حزين بما يمكن أن يحدث ولا يحمد عُقباه، ثم انعطف في زقاق ضيق و تعصف به عواصف الخوف تارة وشعور بأن جيشا بقيادة جاكوب سيكون معه في محنته.
إن السند في الحياة لا يظهر سوى عندما يبدأ الإنسان في حساب لحظات ما تبقى له من سعادة، فيبدأ في تَرْكٌ كل شيء جميل ويسهو كَثِيرًا حين تراوده أفكار ابليسية تحفزه بإنهاء حياته، حينئذٍ يظهر السند كي يحمله بجناح الود والحب وينسى كل ذاك.
عندما اقترب ميدوك من منزله جفّل وفغر فاه عندما شاهد جمع غفير أمام منزله، حينها راح يهرول حتى بلغ المبنى الذي يقيم فيه، وهنا كانت المفاجأة ساحقة عندما شاهد زوجته تقف في أعلى المبنى وتحاول الإنتحار ويحاول أحدهم منعها من فعل ذلك وقتئذٍ تذكرَّ ما حدث بتلك الفتاة في منزل عائلة باردلي ثم أدرك أن الأمر عظيم ومخيف، وتبين أن جاكوب على حق.
توقف جاكوب بسيارته أمام قصره، ثم شرع في أخذ الأغراض التي قام بشرائها لزوجته ثم فتح باب السيارة واندفع نحو الخارج، حينئذٍ سمع صوت سيدة عجوز تجلس أمام المنزل المجاور له، وقد اعتادت على ممازحته، ولكن ما قالته جعله يتسمر في مكانه عندما هتفت بصوتها الفاتر المتبوع بسعال خفيف:
– جاكوب لم تحضر لي الهدية كما وعدتني بالأمس. يا منافق تركت السيدة تصعد أعلى منزلها وتقاوم من أجل الانتحار وأنت تسامر زوجها بكوب من قهوة عكرَّة .
وقتها هروُْل نحوها ولكنها كانت أَسْرَعَ منه عندما دلفت داخل منزلها وأغلقت الباب بإحكام، ثم اختفى صوتها و عمّ الهدوء وانطفئت أضاءة المنزل ، ثم تبعه صوت رزعَّ قوي كأن شئ ما سقط. هنا أشهر جاكوب سلاحه وقفزَّ من على السور حتى القى بنفسهِ داخل منزلها، ولكن لم يكن المنزل سوى جُدران خاوية تظهر أن من كان هُنَا قد رحل ولم يترك شيء، ثم صار يحوم داخل المنزل الذي كانت أبوابه مُشرّعة ولم يجد السيدة، وقتئذٍ توسّط ساحة المنزل وهو يقول:
– قبل دقيقة كانت تجلس في الخارج أين هي ؟
اسئلة بخصوص الفصل خيال
  • ما رأيكم بشخصية جيهان؟
  • هل العقيد جاكوب صادق ؟
  • هل خوف ميدوك مما جرى له طبيعي ؟
  • لماذا تحاول زوجته الانتحار ؟
شكرا لتعليقاتكم حول الفصل، نلتقي في فصل خيال جديد من رواية سري للغاية
المشاركات الأخيرة