قصص الخيالية حكاية
– هذا الأمر لا يمكنني اخبارك به عزيزتي . لا فائدة من معرفتك به لأن الأوان لم يحن بعد.
– لكن يجب أن أعرف كل شيء عن حياتك السابقة يا أمي.
– في بعض الأحيان يُفضَّل عدم معرفة بعض الأشياء ، لأن معرفتها لا تقدَّم ولا تَأَخَّرَ …
حوار دار بين أم و إحدى بناتها، بينما كُنَّ وسط منزلهم المتهالك. كان أمامهم أطباق وجبة الغداء. اعتادت سعاد مُنْذُ نعومة أظافر بناتها على هذا السؤال ، في ذلك الوقت كانت تبحث عن إجابات ساذجة لتخبرهن بمكان وجود والدهم. لكنها الآن ترى في تلك الإجابة شيء غير مقنع لَهُنَّ …
سعاد وحدها من يعرف الحقيقة . ما كانت سعاد بحاجة إلى شرح عن حياتها الماضية ، لأن وجهها الذي داست عليه عجلات الشقاء يروي ذلك، ونظراتها المتعبة توحي بماضي مؤلم. مع هذا كَانَتْ تخفي كل هَذَا عن بناتها. لكن أَصْبَحَتْ في وضع مُحرج عندما تكرَّرت تِلْكَ الأسئلة. حتى صرخت بصوتٍ عالٍ و سردت لَّـهُنَّ قصتها. مُنْذُ أن كانت سعاد في منتصف العقد الثالث، بعد أن انجبت ابنتها تسنيم ، حينها كانوا في ظروف قاسية للغاية. لم يجد زوجها حلَّ أفضل من أن يسافر بحثًا عن عمل لتوفير لقمة العيش لصغاره، لكنه لم يعود اليها مُنْذُ ذلك الحين. قاست سعاد الأمرَّين في انتظاره ، مَرَّتْ سنوات وهي تنتظر سماع أخباره ، لكن دون جدوى…
مُنْذُ ذلك الوقت كانت سعاد تعتمد بِشَكْلٍ مباشر عَلٰى رجل يُدْعَى عبدالمجيد، عندما وجدها عبدالمجيد تعمل في إحدى المحلات ومعها صغارها، حينها أخبرها أنه سوف يعتني بها هي وصغارها، وأنه سوف يتشارك معها الرزق الذي سوف يرزقه الله به. ما كان عبدالمجيد ذا مال، إنما كان من أكثر رجال شارع السلام فقرًا. لكنهُ أراد أن يفعل ذلك تقربًا لله سبحانه وتعالى. مَرَّتْ كل هذه السنوات ، وعبدالمجيد الذي كان يسكن في شقة تجاور شقة سعاد، في كل مساء يعود فيه من عمله محملًا بخيرات الله، ليدخل إلى شقة سعاد لكي يتقاسم معها وبناتها الرزق . كان يفعل ذلك وهو في سعادة بالغة، كونهُ وجد الأهل والابناء ، لكونهُ وجد نفسه وحيدًا في هذه الحياة…
انفجرَّت تسنيم ورجاء بالبكاء وهُنَّ في حضن والدتهم التي لم يتحرك لها ساكن ولم يدمع لها جفن. فقد اعتادت على البكاء حتى جفَت دمعاتها، حينها قالت:
– لم أخبركن بهذه القصة لكي نجلس ونعانق بعضنا ونبكي. لكن يجب أن نبحث عن حلَّ ، خَاصَّةً وأن عمكم عبدالمجيد لم يكن كما كان في الماضي. مسكين هذا الرجل أمضى عشرين عَامًا من عمره وهو يساعدنا ويقدم لنا كُلَّ ما لديه. الآن يجب أن تبحثوا عن عمل حتى نرد له الجميل، لأنه الآن مريض بالسُكري، مع ذلك يتشارك معنا لقمة العيش كما أعتاد…
قالت رجاء وهي تعانق والدتها:
– أنا حصلت على عمل في شركة ممتازة ، سوف أبدأ العمل هذا الأسبوع …
ثم أدلت تسنيم الفتاة المدللة لدى والدتها لتقول:
– أنا أَيْضًا سوف أَفِعْلٌ كل ما بوسعي للحصول على عمل!
هُنَا تبسمت سعاد لتقول مازحة:
– فقط ابتعدي عن عروض وليد السمسار !
وقتئذٍ انقشعت تلك الموجة الحالكة التي غشيتهم ، و علت أصواتهن بضحكات بريئة، بعد أن بدر في ذِهنَّ كل مِنْهُنَّ ذلك الحدث، عندما ذهبت تسنيم لإحدى عروض العمل التي أحضرها لها وليد السمسار ، لتجد بأن صاحب العمل مجنون و هاجمها في أزقة شارع السلام حتى عادت إلى منزلها . كانت تسنيم ورجاء فتيات في غاية الأدب والاحترام، رغم ظروف والدتهن إلا أنها استطاعت أن تربي بناتها تربية حسنة. لكن ظروفهم المادية الصعبة، جعلت أمر زواجهن فيه شيء من الصعوبة.
في يوم كانت تجلس فيه سعاد وبناتها، فُتِح الباب ودلف السيد عبدالمجيد وعلى يديه قُفَّة من الخضروات والفواكه الطازجة ،و هو يُلْقِي عليهن السلام ويجلسن على مقعده الخشبي الذي أعتاد الجلوس عليه في أدب و وقار، ثم يطمئن على حالهم ويغادر. في ذلك الوقت بدا على ملامح وَجْهَهُ الوهن والتعب ، لَكِنَّهُ ما زال يعافر من أجل مساعدتهم. ما أن غادر عبد المجيد حتى طُرِّق الباب بقوة، لتفتح رجاء الباب و تجد أمامها رجل مهندم، يحمل رسالة بريدية على يديه لتقول رجاء :
– من أرسل هذا الخطاب ؟
قال عامل البريد :
– إنه من مكتب اليانصيب، أُرسِل بإسم سعاد السيد !
وقتئذٍ قفزَّت سعاد من مقعدها وهي تصيح بصوت عالٍ بعد أن غادر عامل البريد :
– إنه اليانصيب ، اليانصيب يا بناتي.
عمَّت حالة من الفرحة والسرور وسط منزلهم، خَاصَّةً عندما علمت أنها ربحت مبلغ 500 الف دولار. في تِلْكَ اللحظة التي كُنَّ فيها بتلك الفرحة، دلف السيد عبدالمجيد ليشاركهن الفرحة، وكان في سعادة عارمة …
لم يكن يتطلب الأمر سوى اسبوع حتى تبدل حال عائلة سعاد، و أَصْبَحَتْ من أثريا شارع السلام. عندما قامت بشراء سيارة خاصة لها تتنقل بها هي وبناتها. ثم دخلت رجاء وتسنيم في صداقات مع فتيات من عائلات ثرية تناسب وضعهم الإجتماعي. إلا أن حال عبدالمجيد لم يتغير منهُ شيء. في يوم من الأيام في إحْدَى أمسيات ربيع عام 2013 بينما كانت تجلس رجاء مع صديقاتها، طُرِق باب الشقة لتفتح رجاء الباب و تجده السيد عبدالمجيد يقف محملاً بقُفة الخضروات التي اعتاد إحضارها بجسده الهزيل. هنا بدا على وجه رجاء الضيق والتوتر عندما قالت :
– يا عم عبد المجيد ، هذا ليس وقته. ثم أنك تعلم أننا أصبحنا بحال مختلف، يجب أن ترتدي لبس يليق بنا.
حملق عبد المجيد في وجهها بنظرة مزجت الدهشة والحزن، حين أراد أن يتحدث لكن لسانه تلعثم عن قول شيء ، ثم تقهقر للوراء وقد شعر بثقل ما يحمله على يده، ثم غادر حينها بعد أن أغلقت رجاء الباب . حينها أتت سعاد لتعاتب ابنتها عن فعل ذلك، وهي تقول :
– إنه عبد المجيد أيتها الغبية، إنه الرجل الذي فعل كل شيء من أجلكم . رجل عاش طُولٌ عَمَّرَهُ في خدمتكم. هل نرد له الجميل أم نطرده من منزلنا ونشعره بالذل والهوان .
كانت تسنيم ورجاء في رأي واحد، حين هتفت تسنيم:
– لم ننسى ما فعله معنا، لكن الآن وضعنا اختلف عن الماضي، أصبحنا أصحاب أملاك ، لذلك يجب أن يراعي ذلك. لكن الضغوط التي مارستها سعاد لَهُنَّ في الذهاب و الاعتذار له كانت كافية بأن تذهب سعاد برفقة بناتها للإعتذار للسيد عبد المجيد. مَرَّتْ دقائق بينما كُنَّ أمام شقة عبدالمجيد ، و على أيديهم الورد والهدايا التي أرادت سعاد أن تقدمها كاعتذار له. لكن مَرَّ وقت طويل دون أن يُفتح الباب. حتى استعانت سعاد بأحد السكان لكسر الباب، حينها كانت المفاجأة صادمة عندما وجدوا عبد المجيد ملقي على الأرض وقد فارق الحياة بالحسرة …
في تِلْكَ الأثناء سقطت سعاد فاقدة للوعي ، وعلت أصوات الصراخ والبكاء في تلك الشقة، حتى حُمِلت سعاد إلى المستشفى الذي أكد وفاتها. بين ليلة وضحاها كُنّ وحيدات منزل أكلته الأحزان ، منزل كان في سكينة وهدوء حتى رحل من ضحى ومن كرس جهده لحمايته. حتى جاء ذلك اليوم الذي تعلمت فيه كلن مِنْهُنَّ الدرس، عندما طرق ضابط في الشرطة برفقة أحد أفراده ليخبر رجاء بأن هناك دعوة ضدهم في المحكمة ، ذلك بناء على المال الذي أخذوه تحت إسم مشابه لإسم والدتهم…
حين تقرر الحياة اختبارنا، يجب أن لا ننقاد لتلك الموجة الهوجاء ، بل يجب أن نتمسك بمبادئ الحياة الأولى. لكن رجاء وتسنيم كان ينقصهن هذا الدرس، لأن المحكمة اثبتت لهن ثبات برهان إسم المدعي، وأخذ منهن المال الذي ذهب في لمح البصر، لتعيش رجاء وتسنيم حياتهن القديمة، لكن هذه المرة ينقصها السيد عبدالمجيد و والدتهم سعاد…
الخلاصة:
الحياة مثل أمواج البحر، لا يجب أن نجعلها تأخذنا وسط تلك الأمواج ، بل يجب أن نمارس السباحة لمواجهة تلك الأمواج حتى لا نفقد شيء عزيز علينا. قصص الخيالية
اكتشاف المزيد من الموضوع حصري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

